[تنشر هذه المادة ضمن ملف خاص حول الفن التشكيلي والثورات العربية. للإطلاع على جميع مواد الملف اضغط/ي هنا]
الفنان التشكيلي التونسي سامي بن عامر
إن كل معرفة بناء بالأساس. فمع مر السنين ما زلت أعتبر أن العمل الفني لقاء متجدد مع مادية نغير فيها كما تغير فينا بدورها ومع محيط نتفاعل معه، إيمانًا بأن كل بناء لا يمكن أن يتكوَّن خارج الضِّيق واختلال التوازن.
أواصل اليوم الإبحار في عناصر الكون لمزيد من الاستماع إلى سنفونيته، بالاعتماد على طاقة الحركة ولمعان الألوان ولا جسمية الفضاءات. أليس الكون كامنًا فينا؟ أليست حركاتنا التي تحدث الطاقة وتهب الريح وتبث الحرارة، شاهدة على ذلك؟
من العضوي إلى غير العضوي، من الصلب إلى السائل، من المادي إلى اللامادي، من الطاقة المتراكمة وتحت الأرضية إلى الحركة المتحررة والفضاءات الدينامية، من الداكن إلى المضيء، من المعتم إلى الشفاف، من الانطوائية إلى الانفتاح على الخارج، هكذا تندفع رسوماتي إلى خارجٍ مستقبلي وحركي نجد فيه الهواء والريح والشرايين والضوء، لتجعل منه عالمًا منبثقًا.
ومن المفارقات أن هذا التغير في ممارستي الفنية يطرأ في زمن غلب عليه الألم والتوتر والتشتت والخلافات والنزاعات والحروب والإرهاب، مما زعزع محيطنا العربي وأدخل الهلع في أنفسنا. وما هذا بتناقض. فما عالمي التصويري المنبثق، إلا تعبيراً عن رفض لهذا المحيط التراجيدي القاتم وتشبث بتلقائية متحررة أسعى إلى تفعيلها في فضاء اللوحة.
إن ممارستي الفنية لا تتضمن خطابا سياسيًا مباشرًا بقدر ما هي تمرين للحرية وممارسة روحية تحبط هذا العالم المتوحش. وهي بذلك ضرب من المقاومة لهذا "الخريف" العربي الذي تصلبت فيه العروق وتهالكت فيه أغصان الشجرة الواحدة وجفت فيه الحياة وتهادت فيه بشرية الإنسان. إنها تعبير ذاتي عن غايتي الشخصية المتطلعة إلى الانعتاق وهي بذلك تبشير بحريتي كفرد وعنوان لإنسانيتي.
صحيح أن ما يسمى بـ"ربيع الثورات العربية"، هو نتيجة لوضعيات سياسية متشابهة طبعت بعض الدول العربية واختصت ببعدها الاستبدادي.. إلا أن هذا العامل الداخلي ليس المحدد الوحيد. ذلك أنه مرتبط بأجندات لبعض بلدان العالم الغربي في هذه البلدان العربية. فما يحدث في المنطقة العربية هو جزء من مشهد جيوسياسي اقتصادي واستراتيجي اختص بتجاذبات اشتدّت حدّتها منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، في زمن اتصف بعولمة تسعى إلى رفع الحدود الاقتصادية بين بلدان العالم وبتمرير ثقافة استهلاكية تنشد العالمية وبتجنيس الذائقة، واقترن بفن نمطي متسلط ومهيمن واختص بظهور تكتلات جديدة دولية أصبحت تتنافس في ما بينها في تقسيم العالم، مما أفضى إلى هذه الحروب المأسوية.
إن ما نعيشه اليوم ليس تهديدًا لعالمنا العربي فحسب بل لبشرية الإنسان ذاتها. وليس ثمة خلاص ممكن ما دامت المناخات السياسية والاجتماعية والثقافية لبلداننا غارقة في الانقسامات والتوتر. إلا أن الفنان، هذا العامل خارج هذه الجلبة الخرساء، يبقى في خضم كل هذا ضمير الأمة النابض. إن الفنون التشكيلية ككل الفنون، تتضمن من أجل ذلك مستقبلًا ثقافيًا، بل اجتماعيًا وسياسيًا.
*************
سامي بن عامر في سطور:
من مواليد 1954 بمدينة صفاقس (جنوب تونس العاصمة)، يعمل أستاذ تعليم عال بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس، حاصل على إجازة في الفنون التشكيلية بالمعهد التكنولوجي للفنون والهندسة المعمارية والتعمير بتونس، وعلى دكتوراه مرحلة ثالثة اختصاص فنون تشكيلية، نظري وتطبيقي، بجامعة باريس1 «بنتيون سربون»، وعلى التأهيل الجامعي في الفنون التشكيلية. (جامعة تونس).
انتخب خلال ثلاث دورات متتالية (1999 – 2001- 2004). أمينًا عامًا لاتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين حيث أسس بمعية أعضاء الهيئات التي اشتغل معها هيكلة إدارية للاتحاد سمحت بتفعيل دوره على الساحة الثقافية. وهو عضو بالهيئة المديرة للمهرجان الدولي للفنون التشكيلية بالمحرس.
تقلد إدارة المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس من 2008 إلى 2011.
يتأسّس اللون عند الفنان سامي بن عامر من خلال وعيه ونظرته المتجدّدة للحياة، فكان يعمد إلى التّعبير عن نفسه بواسطة لمسات الفرشاة المتعدّدة الألوان من أجل التعبير عن عاطفته الجيّاشة ومكنونات صدره.
ولا تخلو أعماله –كما يرى النقاد- من فعّالية مليئة بصدق المشاعر الغنيّة بالألوان والتّمازج الفنّي المتقن. فاللّون الذي احتضنته وضمّته لوحاته، أضحى ذو دلالة معرفيّة و وجدانيّة تعبّر عن هويّة وجوديّة لصياغة واقعيّة للحالة المرصودة، أي ملاءمته ما بين الشكل والمضمون، والمعالجة الأسلوبيّة، والتقنيّة في تحميل اللّحظة الوصفيّة أشكالًا تعبيريّة، لذلك فقد حاول أن يبرز الابتهاج والأمان في فيزيائيّة اللون بينما تفضح العجينة اللونيّة تمرّده المتخفّي فيه، لنراه يعمل جاهدًا على طمس هذه المكنونات التي تحمل في طيّاتها معنى اليأس والتّوتر والضّبابية، إلى الانفراج والانعتاق.
ونقرأ من بين أعماله "أصلي"، "حفريات" 2008 وكذلك "تشبث"، "تنقيب" 2015، عناوين قد تحمل في جوهرها كل معاني الرجوع واسترجاع الماضي والبحث فيه في إطار الممارسة المعاصرة التي يقدمّها فهي ممارسة تبحث في عمق التاريخ بفعل "الأركيولوجي" بمعنى التنقيب والحفر في الأرض عن تراث وحضارة انسانيّة قد تعاقبت عليها الأزمنة وتداولتها ألسنة التاريخ .
ويعتمد سامي بن عامر في أعماله، التغطية ثم النبش والتنقيب في لوحاته التصويرية ليستخرج تلك الحفريات التشكيلية من طبقاته الأرضية الترابية والورقية والعجائنية المتراكمة كما في لوحته "تراكم" 2007. فنبشًا وحفرًا ينتجا معرفة فنية وبحثًا واستكشافًا لحفريات حاملة لخصوصية التشكيل اللامتوقع في إطار مبحث "أركيولوجي" تشكيلي هادف.
أنجز عدة معارض شخصية في تونس، كما شارك في عدة معارض دولية، وله مؤلف بعنوان: "الفنون الجميلة: الاصطلاح وموقعه من الفكر الحديث"، كما له مقالات علمية متعددة نشرت بمجلات مختصة. كما شارك في تأليف أربعة كتب، "دليل المعلم" في مجال تدريس مادة التربية التشكيلية في التعليم الأساسي.
نظم عديد الندوات العلمية في إطار اتحاد الفنانين التشكيليين والمهرجان الدولي بالمحرس ومهرجان الزيتونة بالقلعة الكبرى والمعهد العالي للفنون الجميلة. كما شارك في عديد الندوات الفكرية في تونس وخارجها، حاز جوائز محلية ودولية عدة. وأعماله مقتناة من العديد من المؤسسات الثقافية والفنية في تونس وخارجها.